ذكريات مع عملاق البحث والتحقيق سماحة العلامة الدكتور عبد الحليم النعماني

ذكريات مع عملاق البحث والتحقيق سماحة العلامة الدكتور عبد الحليم النعماني

سماحة الأستاذ المفتي محمد قاسم القاسمي

مكثتُ في مدينة كراتشي ١٢ عاما أدرس، وسمعتُ حينئذ ما سمعت عن المحقق الكبير مولانا المحدّث الشيخ محمد عبد الرشيد النعماني، وعرفت من أعماله «ما تمس إليه الحاجة»، فتمنيتُ لقاءه والاستفادة منه، ولكن لم يقدّر لي ذلك، ثم في سفرٍ لي إلى باكستان وفّقتُ لزيارته، فاستقبلني بأيّما حبّ وحفاوة. ومما تكلمتُ معه في تلك الزيارة بشأنه علم الحديث والشبهات التي تُثار من قبل أدعياء العلم والتحقيق حول الفقه الإسلامي من حين إلى حين، فتكلم الشيخ ودلّ على كتب وأساليب، وأوصاني بمطالعة كتاب «ذبّ ذبابات الدراسات عن المذاهب الأربعة المتناسبات» للشيخ الفقيه الأصولي عبد اللطيف بن محمد هاشم السندي، والذي تولّى الشيح محمد عبد الرشيد النعماني تحقيقه.

وأهدى إليّ نسخة منه، وما كنتُ أعرف آنذاك أنّ له أخًا باحثًا محقِّقًا في علم الحديث أشبّ منه، فلما انتقل الشيخ عبد الرشيد نعماني إلى رحمة الله تأسّفنا على عدم الاستفادة منه، ثم عندما جاءنا الخبر عن طريق الطلاب الوافدين إلى باكستان بأنّ له أخا شقيقا يواصل طريقه، وهو الشيخ الدكتور عبد الحليم النعماني، وقد ملأ الفراغ الذي حدث برحيل شقيقه في جامعة العلوم الإسلامية التي أسسها العلامة السيد محمد يوسف البنوري رحمة الله عليه، اشتقنا إلى لقائه وزيارته فحقق الله تعالى هذا خلال رحلة قمت بها إلى باكستان، فرحّب بنا، وأبدى ارتياحًا وسرورًا، وغمرنا بشفقته وحفاوته وخلقه الحسن، فدعوناه إلى إيران لافتتاح «التخصص في الحديث النبوي الشريف» بدار العلوم زَاهِدَان، فرحّب بالدعوة، وبعد العودة أخبرَنا فضيلة الشيخ عبد الحميد بقبول الدعوة، ففرح بذلك وتمّ التنسيق وتحديد الموعد، ثم راسلنا الشيخ النعماني، فلبّى الدعوة مُخبرًا إيانا بموعد السفر، وعند الموعد ذهبنا إلى الحدود استقبالًا له، منتظرين قدومه بفارغ الصبر وكل سرور وشوق [1]، نعدّ الدقائق واللحظات حتى شرّفنا بقدومه الميمون، فوصل إلى دار العلوم زاهدان، وأقام فيها حوالي أسبوع، وعقدت حفلة افتتاح التخصص في الحديث، حسب المقرر، حضرها فضيلة مولانا عبد الحميد والأساتذة والطلاب، فخطب الشيخ، وأفاد وأجاد، وزوّد الحاضرين بنصائح قيمة.

ومن الجدير بالذكر أن الافتتاح كان بقراءة كتاب «نخبة الفكر» للعلامة ابن حجر العسقلاني، ومن حسن حظي أنّي تشرّفت بقراءة العبارة ناويًا التلمذ المباشر عليه، فشرح الأستاذ ما وسعه الوقت مسلطًا الأضواء على أهمية الفن وفضله. وهكذا تم تأسيس قسم التخصص في الحديث لأول مرة في إيران بكلمة الشيخ ودعائه ونصائحه، جعله الله صدقة جارية له ولمؤسس الدار الراحل مولانا الشيخ عبد العزيز رحمه الله وللمعنيين بالأمر. وانعقد حفل في الجامع المكي لتكريمه، فألقى فيه خطابا عاما نصح به المسلمين، ولما شاع خبر قدومه بدأ أهلُ العلم يَفِدُ لزيارته والاستفادة منه من المدن الأخرى.

أشار يومًا إلى أنه راغب في زيارة جامعة سِيستان وبلُوشِستَان، فتمّ التنسيق مع بعض الأساتذة بالجامعة فذهبنا هناك حيث قابل طائفة من الأساتذة وتبادل معهم الآراء حول التعليم والتربية. ولما سألهم عن عدد الأساتذة من أهل السنة – وكانت الإجابة أن عددهم قليل جدًّا لا يتجاوز العشرين من مجموعة يتجاوز عددها ٤٠٠ شخصًا – تعجّب الشيخ، وتأسف جدًّا، وعلّق على ذلك مبيّنا أهمية الدراسات العليا في حياة الشعوب وتأثيرها في مستقبلها.

كانت أيام إقامة شيخنا الدكتور أيام فرحة وسرور وتنشيط للطلاب والأساتذة، قد متّعنا بفيوضه وبركاته وأحاديثه وذكرياته الحلوة مع أساتذته ومشايخه، وكان يحكي لنا قصص أساتذته في دِيُوبَند، سيّما سماحة الشيخ المجاهد مولانا السيد حسين أحمد المدني رحمه الله وكان معجبًا به جدًّا، يذكر أحواله وصفاته، ويومًا – وقد كان في ضيافة الشيخ عبد الحميد – دعاه إلى منزله لوجبة العَشاء، فحكى هناك نبذةً من أحوال العلامة السيد حسين أحمد المدني، فلم يتمالك نفسه، وأجهش بالبكاء تسيل دموعه بغزارة، فتأثر الحاضرون جدًّا.

إلى خراسان وتهران

بعد أن قضى الشيخ أياما في دار العلوم زاهِدَان أبدى رغبته لزيارة خراسان حيث كانت مركزا للعلم والعلماء سيما مدينة مَشهَد، فحجزنا التذاكر متوجهين إلى مشهد، وهناك نزلنا في بيت أحد الإخوة، فاجتمع بعض الناس في بيت المضيف من هنا وهناك، ممن عرفوا قدومه واستفادوا من كلماته ونصائحه القيمة.

في طوس

ذهبنا إلى طوس لنزور مرقد الإمام الغزالي رحمه الله، فزرنا قبره، وذكرنا الأيام الخالية التي كانت تتلألأ فيها شمس معارف الغزالي وعلومه في خراسان وبغداد، وتمنّينا عودتها في المستقبل، وليس ذلك على الله بعزيز لأنه على كل شيء قدير.

وذهبنا إلى نيشابور كوطن للإمام المحدث مسلم بن الحجاج النيشابوري والعارف الكبير الشهير فريد الدين العطار النيشابوري، وتحسّر الشيخ مُبدِيًا أسفه البالغ على جفاء الأيام وحوادث الدهر واندراس حلقات العلم في تلك الديار ونسيان أهليها تاريخ سلفهم الصالح.

إلى طهران

غادرنا مشهد إلى طهران وكان السفر بالقطار، ومن الجدير بالذكر أني كنتُ أواصل قراءة كتاب

«نخبة الفكر» على الشيخ طولَ الطريق في الطائرة وفي القطار وحيثما تيسّر، مستفيدًا من شرحه وآرائه، وختمتُ الكتاب قبيل مغادرة الشيخ طهران. والحمد لله.

وفي طهران نزلنا في منزل الشيخ عبيد الله موسى زاده، حيث قد اجتمع كثير من أهل طهران ممن دُعوا إلى استماع محاضرة الشيخ ونصائحه، فاستفادوا وفرحوا بلُقياه، وبعد فراغ الشيخ من الخطاب اقترب إليه المستمعون محاولين تقبيل يديه، فلم يرض بذلك، وقال كلمة عجبية لا أنساها: «إنهم يُحسنون بنا الظنّ، ولعلهم ينجون، لكننا نخشى أن يأخذنا الإعجابُ بأنفسنا فنؤاخَذ». فقلتُ: «إن هذا العمل تقليد سائد لدينا»، ولكن الشيخ لم يطمئن قلبه ولم يقنع.

كانت إقامته في طهران قصيرة بَيد أنها كانت مباركة مفيدة، قد هزّ النفوس، وألقى الفكرة، وبيّن السبيل والمناهج، وحثّ على المجاهدة والاستقامة.

فودّعناه إلى المطار مغادرًا إلى كراتشي بعد أن أفاض علينا من معين علومه وفيوضه، وأوصانا وشرّفنا بدعواته الصالحة وتشجيعاته. جزاه الله خيرا ورفع درجاته.

اللقاء الأخير

كلما قدِّر لي الرحلة إلى كراتشي حاولتُ زيارته في مقرّه بجامعة العلوم الإسلامية قسم التخصص في الحديث. وكان دعاه الشيخ المفتي عبد الرحيم في السنوات الأخيرة إلى جامعة الرشيد، استفادةً من بركاته ونصائحه وتوجيهاته التعليمية والتربوية.

وقبل ثلاث سنوات لما ذهبت إلى جامعة الرشيد بكراتشي تشرّفت بزيارته ففرح جدّا، ودعاني إلى بيته، وأراني مكتبته الزاخرة بالكتب القيمة، مُكرِمًا إياي بما لا أستحق، وكانت فرصة سعيدة لتبادل أطراف الحديث بشأن التعليم والدراسة والتحقيق وتكوين الرجال الباحثين، فأعجبني آرائه القيمة الحصيفة، ويا ليت أهل العلم والجامعات الدينية يلتفتون إلى آرائه القيمة ويطبّقونها. قد فوجئنا بنبأ رحيله وقد كنا نتمنّى التمتّع بحياته والاستفادة من حضرته، ولكن كان أمر الله قدرا مقدورا. فإنا لله وإنا إليه راجعون، وإنّا لِفراقه لمحزونون.

لقد فقدنا برحيله عالما ربّانيا ومُربّيًا ناجحًا وباحثًا كبيرًا ومحقّقا عملاقا تذكّرنا أعماله وجهوده بالسلف الصالح، مما يقتضي أن نأخذ دروسا وعظات من حياته ونقتدي به في مجال خدمة الإسلام والمسلمين وتحمّل الشدائد والصبر في سبيل العلم والدين. كما ينبغي أن نتأسّى به في الاعتناء بالتحقيق والدراسة والمحافظة على الأوقات واغتنام الفرص واللحظات واختيار حياة الزهد والتقشّف والتواضع في القول والعمل والحلم وأدب الأساتذة والاتصال الدائم بالمشايخ الكبار والاهتمام بالتزكية والتقوى في جميع شؤون الحياة.

وهناك ذكرى رائعة أخرى حدثت خلال مدة إقامة الشيخ في زاهدان، لا يفوتني بيانها، وهي أنها جاءت فئة من شباب أهل العلم من مدينة خاش لزيارة الشيخ طالبين منه أن ينصحهم، فتواضع الشيخ أوّلا ثم أنشد شعرا باللغة الفارسية:

من نمی گویم زیان کن یا به فکر سود باش

ای ز فرصت بی خبر در هر چه باشی زود باش

«لستُ أقول لك اربح أو اخسر، وإنما نصيحتي لك أيها الغافل عن فوات الفرصة أن أسرع فيما تريد»، ففرحوا بإرشاده وقالوا: لقد كفانا هذا، ثم ودّعوه شاكرين.

حقيق بنا أن نستفيد من كتبه ومآثره، ونقدّمها للجيل المعاصر والقادم ونواصل طريقه، ولا ننساه في دعواتنا، فإن له علينا حقّا.

اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله، ووسّع مدخله، وأبدله دارًا خيرًا من داره وأهلا خيرًا من أهله، وارزق أهله وذويه وأصحابه صبرًا جميلًا وأجرًا عظيمًا.

اللهم لا تفتنّا بعده، ولا تحرمنا أجره، وجازه أحسن الجزاء عن الإسلام والمسلمين.

 

(فاتحة مجلة «الصحوة الإسلامية»، العدد (١٤٦_١٤٥) الخاص لحياة الشيخين الدكتور محمد عبد الحليم النعماني والدكتور محمد عادل خان رحمهما الله)

 



[1] في الأصل: «وكلنا سرور وشوق».

Leave a comment